KLIK GAMBAR UNTUK DOWNLOAD PDF
التُّحْفَةُ السَّنِيَّةُ
فِيْ شَرْحِ الْأَدِلَّةِ الْحَرْمِيْنِيَّةِ
تأليف:
أبي أحمد محمد بن سَلِيم اللمبوري الأندونيسي عفا الله عنه
الْمُقدمة
بِسمِ الله الرَّحمنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله.
أمَّا بَعدُ:
فهذه الأحاديث المختارة من أدلة الفقه والتوحيد والعقيدة، ذكرها أستاذنا أبو العباس حرمين بن سليم اللمبوري الأندونيسي رحمه الله في رسالته ونصيحته، وإنني أحمد الله عز وجل الذي أمدني بالعون والتيسير في شرحها.
أسأل الله الكريم بِمنهِ وكرمه أن ينفع بها أستاذنا أبا العباس رحمه الله، وأن ينفع بها كل من قرأها إنه على كل شيئ قدير.
كتبه أبو أحمد محمد بن سليم اللمبوري الأندونيسي
في مسجد السنة بسعوان صنعاء
الْحَدِيْثُ الْأَوَّلُ:
رَوَى الْإِمَامُ مُسْلِمٌ فِيْ “صَحِيْحِهِ” عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ حِينَ بَعَثَهُ إِلَى اليَمَنِ: «إِنَّكَ سَتَأْتِي قَوْمًا أَهْلَ كِتَابٍ، فَإِذَا جِئْتَهُمْ، فَادْعُهُمْ إِلَى أَنْ يَشْهَدُوا أَنْ لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لَكَ بِذَلِكَ، فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لَكَ بِذَلِكَ، فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ فَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لَكَ بِذَلِكَ، فَإِيَّاكَ وَكَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ وَاتَّقِ دَعْوَةَ المَظْلُومِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ».
الشرح:
الْحديث أخرجه البخاري رحمه الله في “صحيحه”، وبوب فيه: “بَابُ بَعْثِ أَبِي مُوسَى، وَمُعَاذٍ إِلَى اليَمَنِ قَبْلَ حَجَّةِ الوَدَاعِ”، وَ”بَابُ أَخْذِ الصَّدَقَةِ مِنَ الأَغْنِيَاءِ وَتُرَدَّ فِي الفُقَرَاءِ حَيْثُ كَانُوا”. وأخرجه مسلم رحمه الله في “صحيحه”، وبوب النووي رحمه الله فيه: “باب الدعاء إلى الشهادتين وشرائع الإسلام”.
قوله رحِمه اللهُ: (رَوَى الْإِمَامُ مُسْلِمٌ)، قال عنهأبو الطيب السيد صديق حسن القنوجي رحمه الله (ت 1307هـ): أبو الحسين عساكر الدين مسلم بن الحجاج بن مسلم بن ورد بن كوشاذ القشيري نسبا النيسابوري وطنا نسبة إلى قشير مصغرا قبيلة معروفة من العرب ونيسابور بلد بخراسان معروف بالحسن والعظمة كان أحد أئمة أعلام هذا الشأن وكبار المبرزين فيه وأهل الحفظ والإيقان والرحالين في طلبه إلى أئمة الأقطار والبلدان والمعترف له بالتقديم فيه بلا خلاف عند أهل الحذق والعرفان والمرجوع إلى كتابه والمعتمد عليه في كل الأزمان والمجمع عليه على تقدمه على أهل عصره كما شهد له بذلك إماما وقتهما وحافظا عصرهما أبو زرعة وأبو حاتم أجمعوا على أنه ولد بعد المائتين فقيل: سنة اثنتين ومائتين، وقيل: سنة أربع، وقيل: سنة ست وتوفي عشية الأحد ودفن يوم الإثنين الخامس والعشرين من رجب سنة إحدى وستين ومائتين بنصر آباد ظاهر مدينة نيسابور وعمره خمس وخمسون سنة رحل إلى الحجاز والعراق والشام ومصر وسمع يحيى بن يحيى النيسابوري وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وعبدالله بن مسلمة القعنبي وغيرهم وقدم بغداد غير مرة فروى عنه أهلها وآخر قدومه إليها في سنة تسع وخمسين ومائتين.
قال النووي رحمه الله (ت 676): روى عنه جماعات من كبار أئمة عصره وحفاظه وفيهم جماعات في درجته فمنهم أبو حاتم الرازي وموسى بن هارون وأحمد بن سلمة وأبو عيسى الترمذي وأبو بكر بن خزيمة ويحيى بن صاعد وأبو عوانة الاسفرائيني وأخرون لا يحصون. انتهى. [انظر ترجمته في "الحطة في ذكر الصحاح الستة" (1/247)].
قوله رحِمه اللهُ: (فِيْ “صَحِيْحِهِ”)، قال عنه أبو الطيب السيد صديق حسن القنوجي رحمه الله(ت 1307هـ): وهو أحد الصحيحين اللذين هما أصح الكتب بعد كتاب الله تعالى والثاني من الأصول الستة. ["الحطة في ذكر الصحاح الستة" (1/198)].
قوله رحمه الله: (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا)، هو عبد الله بن عباس بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف أبو العباس القرشي الهاشمي المكي أحد أكابر الصحابة في العلم سمي بالحبر والبحر لسعة علمه، مات سنة ثمان وستين ويقال: كان سنه حينئذ اثنتين وسبعين سنة وبعضهم يروي سنه إحدى أو اثنتين وسبعين سنة أعني في مبلغ سنه وكان موته بالطائف. ["إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام" (1/46)].
قال ابن دقيق العيد رحمه الله (ت 702هـ): وقوله عليه السلام: «إنك ستأتي قوما أهل كتاب»، لعله للتوطئة والتمهيد للوصية باستجماع همته في الدعاء لهم فإن أهل الكتاب أهل علم ومخاطبتهم لا تكون كمخاطبة جهال المشركين وعبدة الأوثان في العناية بها والبداءة في المطالبة في الشهادتين لأن ذلك أصل الدين الذي لا يصح شيء من فروعه إلا به فمن كان منهم غير موحد على التحقيق كالنصارى فالمطالبة متوجهة إليه بكل واحدة من الشهادتين عينا ومن كان موحدا كاليهود فالمطالبة له بالجمع بين ما أقر به من التوحيد وبين الإقرار بالرسالة وإن كان هؤلاء اليهود الذين كانوا باليمن عندهم ما يقتضي الإشراك ولو باللزوم يكون مطالبتهم بالتوحيد لنفي ما يلزم من عقائدهم وقد ذكر الفقهاء أن من كان كافرا بشيء مؤمنا بغيره لم يدخل في الإسلام إلا بالإيمان بما كفر به.
وقد يتعلق بالحديث في أن الكفار غير مخاطبين بالفروع من حيث أنه إنما أمر أولا بالدعاء إلى الإيمان فقط وجعل الدعاء إلى الفروع بعد إجاباتهم الإيمان وليس بالقوي من حيث أن الترتيب في الدعاء لا يلزم منه الترتيب في الوجوب ألا ترى أن الصلاة والزكاة لا ترتيب بينهما في الوجوب؟ وقد قدمت في المطالبة على الزكاة وآخر الأخبار لوجوب الزكاة عن الطاعة بالصلاة مع أنهما متساويتان في خطاب الوجوب.
وقوله عليه السلام: «فإن هم أطاعوا لك بذلك»، طاعتهم في الإيمان بالتلفظ بالشهادتين وأما طاعتهم في الصلاة فيحتمل وجهين:
أحدهما: أن يكون المراد إقرارهم بوجوبها وفريضتها عليهم والتزامهم لها.
والثاني: أن يكون المراد الطاعة بالفعل وأداء الصلاة وقد رجح الأول بأن المذكور في لفظ الحديث هو الإخبار بالفريضة فتعود الإشارة بذلك إليها ويترجح الثاني بأنهم لو أخبروا بالوجوب فبادروا بالامتثال بالفعل لكفى ولم يشترط تلفظهم بالإقرار بالوجوب وكذلك نقول في الزكاة لو امتثلوا بأدائها من غير تلفظ بالإقرار لكفى فالشرط عدم الإنكار والإذعان للوجوب لا التلفظ بالإقرار.
وقد استدل بقوله عليه السلام: «أعلمهم أن الله قد فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم»، على عدم جواز نقل الزكاة عن بلد المال وفيه عندي ضعيف لأن الأقرب أن المراد يؤخذ من أغنيائهم من حيث إنهم مسلمون لا من حيث إنهم من أهل اليمن وكذلك الرد على فقرائهم وإن لم يكن هذا هو الأظهر فهو محتمل احتمالا قويا ويقويه أن أعيان الأشخاص المخاطبين في قواعد الشرع الكلية لا تعتبر ولولا وجود مناسبة في باب الزكاة لقطع بأن ذلك غير معتبر وقد وردت صيغة الأمر بخطابهم في الصلاة ولا يختص بهم قطعا أعني الحكم وإن اختص بهم خطاب المواجهة.
وقد استدل بالحديث أيضا أن من ملك النصاب لا يعطى من الزكاة وهو مذهب أبي حنيفة وبعض أصحاب مالك من حيث إنه جعل أن المأخوذ منه غنيا وقابله بالفقير ومن ملك النصاب فالزكاة منه فهو غني والغني لا يعطى من الزكاة إلا في المواضع المستثناة في الحديث وليس بالشديد القوة وقد يستدل به من يرى إخراج الزكاة إلى صنف واحد لأنه لم يذكر في الحديث إلا الفقراء وفيه بحث.
وقد يستدل به على وجوب إعطاء الزكاة للإمام لأنه وصف الزكاة بكونها: «مأخوذة عن الأغنياء»، فكل ما اقتضى خلاف هذه الصفة فالحديث ينفيه.
ويدل الحديث أيضا على كرائم الأموال لا تؤخذ من الصدقة كالأكولة والربى وهي التي تربي ولدها والماخض وهي الحامل وفحل الغنم وحزرات المال وهي التي تحرز بالعين وترمق لشرفها عند أهلها.
والحكمة فيه أن الزكاة وجبت مواساة للفقراء من مال الأغنياء ولا يناسب ذلك الإجحاف بأرباب الأموال فسامح الشرع أرباب الأموال بما يضنون به ونهى المصدقين عن أخذه وفي الحديث دليل على تعظيم أمر الظلم واستجابة دعوة المظلوم وذكر النبي صلى الله عليه وسلم ذلك عقيب النهي عن أخذ كرائم الأموال لأن أخذها ظلم وفيه تنبيه على جميع أنواع الظلم. ["إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام" (1/255-257)].
الْحَدِيْثُ الثانِي:
رَوَى الْإِمَامُ مُسْلِمٌ فِيْ “صَحِيْحِهِ” عَنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ، إِذْ طَلَعَ عَلَيْنَا رَجُلٌ شَدِيدُ بَيَاضِ الثِّيَابِ، شَدِيدُ سَوَادِ الشَّعَرِ، لَا يُرَى عَلَيْهِ أَثَرُ السَّفَرِ، وَلَا يَعْرِفُهُ مِنَّا أَحَدٌ، حَتَّى جَلَسَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَسْنَدَ رُكْبَتَيْهِ إِلَى رُكْبَتَيْهِ، وَوَضَعَ كَفَّيْهِ عَلَى فَخِذَيْهِ، وَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ أَخْبِرْنِي عَنِ الْإِسْلَامِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْإِسْلَامُ أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَتُقِيمَ الصَّلَاةَ، وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ، وَتَصُومَ رَمَضَانَ، وَتَحُجَّ الْبَيْتَ إِنِ اسْتَطَعْتَ إِلَيْهِ سَبِيلًا» ، قَالَ: صَدَقْتَ، قَالَ: فَعَجِبْنَا لَهُ يَسْأَلُهُ، وَيُصَدِّقُهُ، قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنِ الْإِيمَانِ، قَالَ: «أَنْ تُؤْمِنَ بِاللهِ، وَمَلَائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ» ، قَالَ: صَدَقْتَ، قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنِ الْإِحْسَانِ، قَالَ: «أَنْ تَعْبُدَ اللهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ» ، قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنِ السَّاعَةِ، قَالَ: «مَا الْمَسْئُولُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنَ السَّائِلِ» قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنْ أَمَارَتِهَا، قَالَ: «أَنْ تَلِدَ الْأَمَةُ رَبَّتَهَا، وَأَنْ تَرَى الْحُفَاةَ الْعُرَاةَ الْعَالَةَ رِعَاءَ الشَّاءِ يَتَطَاوَلُونَ فِي الْبُنْيَانِ» ، قَالَ: ثُمَّ انْطَلَقَ فَلَبِثْتُ مَلِيًّا، ثُمَّ قَالَ لِي: «يَا عُمَرُ أَتَدْرِي مَنِ السَّائِلُ؟» قُلْتُ: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: «فَإِنَّهُ جِبْرِيلُ أَتَاكُمْ يُعَلِّمُكُمْ دِينَكُمْ».
الشرْحُ:
الْحديث أخرجه مسلم رحمه الله في “صحيحه”، في “كِتَابُ الْإِيمَانَ”، وبوب النووي رحمه الله فيه : “بَابُ معرفة الْإِيمَانِ، وَالْإِسْلَامِ، والقَدَرِ وَعَلَامَةِ السَّاعَةِ”.
قوله رحمه الله: (عَنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ)، هو أبو حفص عمر بن الخطاب بن نفيل بن عبد العزى بن رياح بن عبد الله بن قرط بن رزاح بن عدي بن كعب القرشي العدوي يجتمع مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في كعب بن لؤي، أسلم بمكة قديما وشهد المشاهد كلها وولي الخلافة بعد أبي بكر الصديق وقتل سنة ثلاث وعشرين من الهجرة في ذي الحجة لأربع مضين وقيل لثلاث”. [انظر "إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام" (1/11)].
قال ابن دقيق العيد رحمه الله (ت 702هـ): هذا حديث عظيم قد اشتمل على جميع وظائف الأعمال الظاهرة والباطنة وعلوم الشريعة كلها راجعة إليه ومتشعبة منه لما تضمنه من جمعه علم السنة فهو كالأم للسنة كما سميت الفاتحة: أم القرآن لما تضمنته من جمعها معاني القرآن. وفيه دليل على تحسين الثياب والهيئة والنظافة عند الدخول على العلماء والفضلاء والملوك فإن جبريل أتى معلما للناسب بحاله ومقاله. ["شرح الأربعين النووية" (1/12)].
وقوله: (ووضع كفيه على فخذيه وقال: يا محمد)، هكذا هو المشهور الصحيح ورواه النسائي بمعناه وقال: (فوضع يده على ركبتي النبي صلى الله عليه و سلم)، فارتفع الإحتمال الذي في لفظ كتاب مسلم فإنه قال فيه: (فوضع كفيه على فخذيه)، وهو محتمل، وقد استفيد من هذا الحديث: أن الإسلام والإيمان حقيقتان متباينتان لغة وشرعا وهذا هو الأصل في الأسماء المختلفة وقد يتوسع فيهما الشرع فيطلق أحدهما على الآخر على سبيل التجوز.
قوله: (فعجبنا له يسأله ويصدقه) إنما تعجبوا من ذلك لأن ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم لا يعرف إلى من جهته وليس هذا السائل ممن عرف بلقاء النبي صلى الله عليه وسلم ولا بالسماع منه ثم هو قد سأل سؤال عارف محقق مصدق فتعجبوا من ذلك.
قوله: «أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه» الإيمان بالله: هو التصديق بأنه سبحانه موجود موصوف بصفات الجلالة والكمال منزه عن صفات النقص وأنه واحد حق صمد فرد خالق جميع المخلوقات متصرف فيما يشاء يفعل في ملكه ما يريد.
والإيمان بالملائكة: هو التصديق بأنهم عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون.
والإيمان برسل الله: هو أنهم صادقون فيما أخبروا به عن الله تعالى أيدهم بالمعجزات الدالة على صدقهم وأنهم بلغوا عن الله رسالاته وبينوا للمكلفين ما أمرهم الله به وأنه بجب احترامهم وأن لا يفرق بين أحد منهم.
والإيمان باليوم الآخر: هو التصديق بيوم القيامة وما اشتمل عليه من الإعادة بعد الموت والحشر والنشر والحساب والميزان والصراط والجنة والنار وأنهما دار ثوابه وجزائه للمحسنين والمسيئين إلى غير ذلك مما صح من النقل.
والإيمان بالقدر: هو التصديق بما تقدم ذكره وحاصله ما دل عليه قوله تعالى: {والله خلقكم وما تعملون}، وقوله: {إنا كل شيء خلقناه بقدر}، ونحو ذلك ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عباس: «واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشئ لم ينفعوك إلا بشئ قد كتبه الله لك ولو اجتمعوا على أن يضروك بشئ لم يضروك إلى بشئ قد كتبه الله عليك رفعت الأقلام وجفت الصحف»، ومذهب السلف وأئمة الخلف: أن من صدق بهذه الأمور تصديقا جازما لا ريب فيه ولا تردد: كان مؤمنا حقا سواء كان ذلك عن براهين قاطعة أو عن اعتقادات جازمة.
وقوله في الإحسان: «أن تعبد الله كأنك تراه» الخ، حاصله راجع إلى إتقان العبادات ومراعاة حقوق الله ومراقبته واستحضار عظمته حال العبادات.
قوله: (فأخبرني عن أماراتها) بفتح الهمزة والأمارة: العلامة و(الأمة) ههنا الجارية المستولدة و(ربتها) سيدتها وجاء في رواية (بعلها) وقد روي أن أعرابيا سئل عن هذه الناقة قال: أنا بعلها ويسمى الزوج: بعلا وهو في الحديث: «ربتها» بالتأنيث واختلف في قوله: «أن تلد الأمة ربتها» فقيل: المراد به أن يستولي المسلمون على بلاد الكفر فيكثر التسري فيكون ولد الأمة من سيدها بمنزلة سيدها لشرفه بأبيه وعلى هذا فالذي يكون من أشراط الساعة استيلاء المسلمين على المشركين وكثرة الفتوح والتسري. وقيل: معناه أن تفسد أحوال الناس حتى يبيع السادة أمهات أولادهم ويكثر ترددهن في أيدي المشترين فربما اشتراها ولدها ولا يشعر بذلك فعلى هذا الذي يكون من أشراط الساعة: غلبة الجهل بتحريم بيعهن، وقيل معناه: أن يكثر العقوق في الأولاد فيعامل الولد أمه معاملة السيد أمته: من الإهانة والسب و(العالة) بتخفيف اللام: جمع عائل: وهو الفقير.
وفي الحديث: كراهة ما لا تدعو الحاجة إليه من تطويل البناء وتشييده وقد روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال: «يؤجر ابن آدم في كل شئ إلا ما وضعه في هذا التراب»، ومات رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يضع حجرا على حجر ولا لبنة على لبنة: أي لم يشيد بناءه ولا طوله ولا تأنق فيه.
وقوله: «رعاه الشاء» إنما خص رعاء الشاء بالذكر لأنهم أضعف أهل البادية معناه أنهم من ضعفهم وبعدهم عن أسباب ذلك بخلاف أهل الإبل فإنهم في الغالب ليسوا عالة ولا فقراء وقوله: (فلبث مليا) قد روي بالتاء يعني لبث عمر رضي الله عنه وروي (فلبث) بغير تاء يعني: أقام النبي صلى الله عليه وسلم بعد انصرافه وكلاهما صحيح المعنى وقوله (مليا) هو بتشديد الياء أي زمانا كثيرا وكان ذلك ثلاثا هكذا جاء مبينا في رواية أبي داود وغيره.
وقوله: «أتاكم يعلمكن دينكم» أي قواعد دينكم أو كليات دينكم قاله الشيخ محي الدين في شرحه لهذا الحديث في “صحيح مسلم”.
أهم ما يذكر في هذا الحديث بيان الإسلام والإيمان والإحسان ووجوب الإيمان بإثبات قدر الله تعالى وذكر في بيان الإسلام والإيمان كلاما طويلا وحكى فيه أقوال جماعة من العلماء منها ما حكاه عن الإمام أبي الحسين المعروف بابن بطال المالكي أنه قال: مذهب جماعة أهل السنة من سلف الأمة وخلفها : أن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص بدليل قوله تعالى: {ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم}، ونحوها من الآيات.
قال بعض العلماء: نفس التصديق لا يزيد ولا ينقص والإيمان الشرعي يزيد وينقص بزيادة ثمراته وهي الأعمال ونقصانها قالوا: وفي هذا توفيق بين ظواهر النصوص التي جاءت بالزيادة وبين أصل وضعه في اللغة وهذا الذي قاله هؤلاء وإن كان ظاهرا فالأظهر والله أعلم أن التصديق يزيد بكثرة النظر لظاهر الأدلة ولهذا يكون إيمان المصدقين أقوى من إيمان غيرهم بحيث لا يغرنهم السفه ولا يتزلزل إيمانهم بعارض بل لا تزال قلوبهم منشرحة منيرة وإن اختلفت عليهم الأحوال، فأما غيرهم من المؤلفة ومن قاربهم فليسوا كذلك وهذا لا يمكن إنكاره ولا يشك في نفس تصديق أبي بكر الصديق رضي الله عنه أن لا يساويه آحاد تصديق الناس ولهذا قال البخاري في “صحيحه”، قال ابن أبي مليكة: “أدركت ثلاثين رجلا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم يخاف النفاق على نفسه ما منهم أحد يقول إن إيمانه كإيمان جبريل وميكائيل عليهم السلام”.
وأما إطلاق اسم الإيمان على الأعمال فمتفق عليه عند أهل الحق ودلائله أكثر من أن تحصر، قال الله تعالى: {وما كان الله ليضيع إيمانكم} أي صلاتكم، وحكي عن الشيخ أبي عمرو ابن الصلاح في قوله صلى الله عليه وسلم: «الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وتقيم الصلاة» إلخ، ثم فسر الإيمان بقوله: «أن تؤمن بالله تعالى وملائكته» إلخ، قال رحمه الله: هذا بيان أصل الإيمان وهو التصديق الباطن وبيان أصل الإسلام وهو الإستسلام والإنقياد الظاهر وحكم الإسلام في الظاهر ثبت في الشهادتين وإنما أضاف إليها الصلاة والزكاة والصوم والحج لكونها أظهر شعائر الإسلام وأعظمها وبقيامه بها يصح استسلامه ثم إن اسم الإيمان يتناول ما فسر به الإسلام في هذا الحديث وسائر الطاعات لكونها ثمرات التصديق الباطن الذي هو أصل الإيمان.
ولهذا لا يقع اسم المؤمن المطلق على من ارتكب كبيرة أو ترك فريضة لأن اسم الشئ مطلقا يقع على الكامل منه ولا يستعمل في الناقص ظاهرا إلا بنية وكذلك جاز إطلاق نفيه عنه في قوله صلى الله عليه وسلم: «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن»، واسم الإسلام يتناول أيضا ما هو أصل الإيمان وهو التصديق الباطن ويتناول أصل الطاعات فإن ذلك كله استسلام قال: فخرج بما ذكرناه أن الإيمان والإسلام يجتمعان ويفترقان وأن كل مؤمن مسلم وليس كل مسلم مؤمنا، وقال: فهذا التحقيق واف بالتوفيق ونصوص الكتابة والسنة الواردة في الإيمان والإسلام التي طالما غلط فيها الخائضون وما حققناه من ذلك موافق لمذهب جماهير العلماء من أهل الحديث وغيرهم والله أعلم. ["شرح الأربعين النووية" (1/12)].
الْحَدِيْثُ الثالثُ:
رَوَى الإِمامُ الْبُخَارِيُّ عَنْ مُعَاذٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: كُنْتُ رِدْفَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى حِمَارٍ يُقَالُ لَهُ عُفَيْرٌ، فَقَالَ: «يَا مُعَاذُ، هَلْ تَدْرِي حَقَّ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ، وَمَا حَقُّ العِبَادِ عَلَى اللَّهِ؟»، قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: «فَإِنَّ حَقَّ اللَّهِ عَلَى العِبَادِ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلاَ يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَحَقَّ العِبَادِ عَلَى اللَّهِ أَنْ لاَ يُعَذِّبَ مَنْ لاَ يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا»، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَلاَ أُبَشِّرُ بِهِ النَّاسَ؟ قَالَ: «لاَ تُبَشِّرْهُمْ، فَيَتَّكِلُوا».
الشرح:
الْحديث أخرجه البخاري رحمه الله في “صحيحه”، وبوب فيه: “بَابُ مَا جَاءَ فِي دُعَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمَّتَهُ إِلَى تَوْحِيدِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى”، وأخرجه مسلم في “صحيحه”، وبوب النووي رحمه الله فيه: “بَابُ مَنْ لَقِي اللهَ بِالْإِيمَانِ وَهُو غَيْرُ شَاكٍّ فِيهِ دَخَلَ الْجَنَّةَ وَحُرِّمَ عَلَى النَّارِ”.
قوله رحمه الله: (في صحيحه)، هو “المسند الجامع الصحيح المختصر من أمور رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه وأيامه” كما سماه مؤلفه، المشهور بصحيح البخاري للإمام الحافظ أمير المؤمنين في الحديث أبي عبدالله محمد بن إسماعيل الجعفي البخاري المتوفي بقرية خرتنك سنة ست وخمسين ومائتين، وهذا الفصل يشمل أوصالا وصل هو أول مصنف صنف في الصحيح المجرد وأول الكتب الستة في الحديث وأفضلها عند الجمهور على المذهب المختار المنصور.
قال النووي رحمه الله في “شرح صحيح مسلم”: اتفق العلماء على أن أصح الكتب بعد القرآن الكريم الصحيحان صحيح البخاري وصحيح مسلم وتلقاهما الأئمة بالقبول وكتاب البخاري أصحهما صحيحا وأكثرهما فوائد وقد صح أن مسلما كان ممن يستفيد منه ويعترف بأنه ليس له نظير في علم الحديث وهذا الترجيح هو المختار الذي قاله الجمهور ثم إن شرطهما أن يخرجا الحديث المتفق على ثقة نقلته إلى الصحابي المشهور من غير اختلاف بين الثقات ويكون إسناده متصلا غير مقطوع وإن كان للصحابي راويان فصاعدا فحسن وإن لم يكن له إلا راو واحد وصح الطريق إلى ذلك الراوي أخرجاه والجمهور على تقديم صحيح البخاري قلت وبعض المغاربة رجحوا صحيح مسلم على صحيح البخاري والجمهور يقولون أن هذا فيما يرجع إلى حسن البيان والسياق وجودة الوضع والترتيب ورعاية دقائق الإشارات ومحاسن النكات في الأسانيد وهذا خارج عن البحث والكلام في الصحة والقوة وما يتعلق بها وليس كتاب يساوي صحيح البخاري في هذا الباب بدليل كمال الصفات التي اعتبرت في الصحة في رجاله وبعضهم توقف في ترجيح أحدهما على الآخر والحق هو الأول، انتهى.
قال الحافظ عبد الرحمن بن علي بن الديبع نظم:
تنازع قوم في البخاري ومسلم لدي وقالوا أي ذين يقدم
فقلت لقد فاق البخاري صحة كما فاق في حسن الصناعة مسلم.
وقال بعضهم نظم:
قالوا لمسلم فضل قلت البخاري جللا
قالوا البخاري يكرر قلت المكرر أحلى
["الحطة في ذكر الصحاح الستة" (1/168-169)].
وفي هذا الحديث: فضيلة لمعاذ رضي الله عنه، وهو معاذ بن جبل بن عمرو بن أوس بن كعب بن عمرو الخزرجي الأنصاري صحابيٌّ جليل مشهور من أعيان الصحابة، وكان متبحراً في العلم والأحكام والقرآن.
قوله: (كُنْتُ رِدْفَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى حِمَارٍ)، فيه تواضع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في إرداف صاحبه معاذ رضي الله عنه معه على الحمار.
قوله: «يَا مُعَاذُ، هَلْ تَدْرِي حَقَّ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ، وَمَا حَقُّ العِبَادِ عَلَى اللَّهِ؟»، فيه التعليم عن طريق السؤال والجواب، وهو طريقة من طرق التعليم، وهي طريقة نبويّة، استعملها جبريل عليه السلام في تعليم أمة محمد صلى الله عليه وسلم، كما استعملها محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين يقول: «يَا عُمَرُ أَتَدْرِي مَنِ السَّائِلُ؟» قُلْتُ: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: «فَإِنَّهُ جِبْرِيلُ أَتَاكُمْ يُعَلِّمُكُمْ دِينَكُمْ».
قوله: (قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ)، فيه تأدب الطالب أو العالم في أنه إذا سُئل عن شيء وهو لا يعرفه، أن يقول: “الله ورسوله أعلم”، قَالَ عَبْدُ اللهِ بن مسعود رضي الله عنه: يَا أَيَّهَا النَّاسُ اتَّقُوا اللهَ، مَنْ عَلِمَ مِنْكُمْ شَيْئًا، فَلْيَقُلْ بِمَا يَعْلَمُ، وَمَنْ لَمْ يَعْلَمْ فَلْيَقُلْ: اللهُ أَعْلَمُ، فَإِنَّهُ أَعْلَمُ لِأَحَدِكُمْ أَنْ يَقُولَ: لِمَا لَا يَعْلَمُ: اللهُ أَعْلَمُ، فَإِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ}. [رواه مسلم].
قوله: (قُلْتُ: وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ) هذا يُقال في حياة رَسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ”، وأما بعد وفاة رَسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإنه يقال: “اللَّهُ أَعْلَمُ”.
قوله: «فَإِنَّ حَقَّ اللَّهِ عَلَى العِبَادِ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلاَ يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا»، هذا هو حق الله سبحانه وتعالى على عباده، كما قال الله تعالى في كتابه: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ . مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ . إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات: 56-58]، قال ابن كثير رحمه الله: “أي إنما خلقتهم لآمرهم بعبادتي، لا لاحتياجي إليهم”. ["تفسير ابن كثير" (7/425)].
وقوله: «وَحَقَّ العِبَادِ عَلَى اللَّهِ أَنْ لاَ يُعَذِّبَ مَنْ لاَ يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا»، هذا حق تفضيل من الله تعالى أوجبه على نفسه، والدليل قوله تعالى: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعام: 54].
قوله: (فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَلاَ أُبَشِّرُ بِهِ النَّاسَ؟ قَالَ: «لاَ تُبَشِّرْهُمْ، فَيَتَّكِلُوا»)، نهاه رسول الله صلى الله عليه وسلم عن التبشير وذكر له علة وهي: «فَيَتَّكِلُوا»؛ لأنه يخشى أن يعتمدوا على هذه البشارة فيتركوا العمل الصالح. وفيه جواز كتم بعض العلم غير الواجب إذا كان نشره يتضمن مفسدة أكبر.
الْحَدِيْثُ الرابعُ:
رَوَى الإِمامُ الْبُخَارِيُّ عَنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَيُقِيمُوا الصَّلاَةَ، وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّ الإِسْلاَمِ، وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ».
الشَّرْحُ:
الْحديث أخرجه البخاري رحمه الله في “صحيحه”، وَبوبَ فيه: “بَابٌ: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ}”. وأخرجه مسلم رحمه الله في “صحيحه”، وبوب النووي رحمه الله فيه: “بَابُ الْأَمْرِ بِقِتَالِ النَّاسِ حَتَّى يَقُولُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ”.
قوله رحمه الله: (عَنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا) هو أبو عبد الرحمن عبد الله بن عمر بن الخطاب بن نفيل بن عبد العزى بن رياح بن عبد الله بن قرط بن رزاح بن عدي بن كعب بن مرة العدوي، وتوفي رحمه الله في سنة ثلاث وسبعين. ["إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام" (1/108)].
قال ابن دقيق العيد رحمه الله (ت 702هـ): هذا حديث عظيم وقاعدة من قواعد الدين وقد روى هذا الحديث أنس وقال: «حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله وأن يستقبلوا قبلتنا وأن يأكلوا ذبيحتنا وأن يصلوا صلاتنا فإذا فعلوا ذلك حرمت علينا دماؤهم وأموالهم إلا بحقها لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين»، وجاء في “صحيح مسلم” من رواية أبي هريرة: «حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ويؤمنوا بما جئت به»، وذلك موافق لرواية عمر في المعنى.
وأما معاني هذا الحديث فقال العلماء بالسير: لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم واستخلف أبو بكر الصديق رضي الله عنه بعده وكفر من كفر من العرب عزم أبو بكر على قتالهم وكان منهم من منع الزكاة ولم يكفر وتأول في ذلك فقال له عمر رضي الله عنه: كيف تقاتل الناس وقد قالوا: لا إله إلى الله وقد قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلى الله»، إلى آخر الحديث فقال الصديق: إن الزكاة حق المال، وقال: “والله لو منعوني عناقا” وفي رواية : “عقالا كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلهم على منعه”، فتابعه عمر على قتال القوم.
قوله: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فمن قال لا إله إلا الله فقد عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه وحسابه على الله»، قال الخطابي وغيره: المراد بهذا أهل الأوثان ومشركو العرب ومن لا يؤمن دون أهل الكتاب ومن يقر بالتوحيد فلا يكتفى في عصمته بقوله لا إله إلا الله إذ كان يقولها في كفره وهي من اعتقاده وكذلك جاء في الحديث الآخر: «وأني رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة».
وقال الشيخ محي الدين النووي: ولا بد مع هذا من الإيمان بجميع ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم كما جاء في الرواية الأخرى لأبي هريرة: «حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ويؤمنوا بي وبما جئت به»، ومعنى قوله: «وحسابهم على الله» أي فيما يسترونه ويخفونه دون ما يخلون به في الظاهر من الأحكام الواجبة ذكر ذلك الخطابي، قال: وفيه أن من أظهر الإسلام وأسر الكفر يقبل إسلامه في الظاهر وهذا قول أكثر أهل العلم وذهب مالك إلى أن توبة الزنديق لا تقبل وهي رواية عن الإمام أحمد وفي قوله: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ويؤمنوا بي وبما جئت به»، دلالة ظاهرة لمذهب المحققين والجماهير من السلف والخلف أن الإنسان إذا اعتقد دين الإسلام اعتقادا جازما لا تردد فيه كفاه ذلك ولا يجب عليه تعلم أدلة المتكلمين ومعرفة الله بها خلافا لمن أوجب ذلك وجعله شرطا في نحو أهل القبلة وهذا خطأ ظاهر فإن المراد التصديق الجازم وقد حصل لأن النبي صلى الله عليه وسلم اكتفى بالتصديق بما جاء به ولم يشترط المعرفة بالدليل وقد تظاهرت بهذا أحاديث في الصحيح يحصل بمجموعها التواتر بأصلها والعلم القطعي والله أعلم. ["شرح الأربعين النووية" (1/34)].
الْحَدِيْثُ الخامسُ:
رَوَى الإِمامُ أَحْمَدَ عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ».
الشَّرْحُ:
الْحديث أخرجه أحمدُ رحمه الله في “مسنده”، والبخاري رحمه الله في “صحيحه” وبوب فيه: “بَابُ إِذَا اصْطَلَحُوا عَلَى صُلْحِ جَوْرٍ فَالصُّلْحُ مَرْدُودٌ”، وأخرجه مسلم رحمه الله في “صحيحه”، وبوب النووي رحمه الله فيه: “بَابُ نَقْضِ الْأَحْكَامِ الْبَاطِلَةِ، وَرَدِّ مُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ”.
قوله رحمه الله: (رَوَى الإِمامُ أَحْمَدَ) رواه في كتابه “المسند”، قال عنه أبو الطيب السيد صديق حسن القنوجي رحمه الله (ت 1307هـ): يشتمل على ثلاثين ألف حديث في أربعة وعشرين مجلدا وهو في تسعة عشر مجلدا من نسخة الوقف بالمستنصرية وهو كتاب جليل من جملة أصول الإسلام وقد وقع له فيه ما ينوف عن ثلاثمائة حديث ثلاثية الإسناد. ["الحطة في ذكر الصحاح الستة" (1/222)].
وَالإِمامُ أَحْمَدَ هو أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال بن أسد الشيباني المروزي نزيل بغداد أبو عبد الله أحد الأئمة ثقة حافظ فقيه حجة وهو رأس الطبقة العاشرة مات سنة إحدى وأربعين وله سبع وسبعون سنة. ["تقريب التهذيب" (1/84)].
قوله رحمه الله: (عَنْ عَائِشَةَ)، قال عنها ابن الأثير رحمه الله: عائشة بنت أبي بكر الصديق الصديقة بنت الصديق أم المؤمنين زوج النبي صلى الله عليه وسلم وأشهر نسائه وأمها أم رومان ابنة عامر بن عويمر بن عبد شمس بن عتاب بن أذينة بن سبيع بن دهمان بن الحارث بن غنم بن مالك بن كنانة الكنانية. تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الهجرة بسنتين وهي بكر، قال أبو عبيدة: وقيل: بثلاث سنين. وقيل: بأربع سنين. وقيل: بخمس سنين. وكان عمرها لما تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم ست سنين وقيل: سبع سنين. وبني بها وهي بنت تسع سنين بالمدينة. وكان جبريل قد عرض على رسول الله صلى الله عليه وسلم صورتها في سرقة حرير في المنام لما توفيت خديجة وكناها رسول الله صلى الله عليه وسلم أم عبد الله بابن أختها عبد الله بن الزبير.
وهذا الحديث جاء في بيان الشريعة، وهو أن شريعة الله سبحانه كلها قد بلغها النبي صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3].
قوله: «مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ»، فيه دليل على أن كل من عمل عملاً مضافاً إلى الشريعة الإسلامية لا أصل له بالدين فإنه مردود، سواء كان تغييراً في العبادة، أو بزيادة فيها، أو شرعية عبادة أخرى، قال الله تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: 110].
الْحَدِيْثُ السادسُ:
رَوَى الْإِمَامُ مُسْلِمٌ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ».
الشَّرْحُ:
الْحديث أخرجه مسلمٌ رحمه الله في “صحيحه”، وبوب النوويُّ رحمه الله فيه: بَابُ نَقْضِ الْأَحْكَامِ الْبَاطِلَةِ، وَرَدِّ مُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ.
قال ابن القيم رحمه الله: “فإن الله لا يقبل من العباد إلا ما كان له خالصا والأعمال أربعة واحد مقبول وثلاثة مردودة، فالمقبول ما كان لله خالصا وللسنة موافقا، والمردود ما فقد منه الوصفان أو أحدهما وذلك أن العمل المقبول هو ما أحبه الله ورضيه وهو سبحانه إنما يحب ما أمر به وما عمل لوجهه وما عدا ذلك من الأعمال فإنه لا يحبها بل يمقتها ويمقت أهلها قال تعالى: {الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا}.
قال الفضيل بن عياض: هو اخلص العمل وأصوبه فسئل عن معنى ذلك فقال: إن العمل إذا كان خالصا ولم يكن صوابا لم يقبل وإذا كان صوابا ولم يكن خالصا لم يقبل حتى يكون خالصا صوابا فالخالص أن يكون لله والصواب أن يكون على السنة ثم قرأ قوله: {فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا}.
فإن قيل: فقد بان بهذا أن العمل لغير الله مردود غير مقبول والعمل لله وحده مقبول فبقي قسم آخر وهو أن يعمل العمل لله ولغيره فلا يكون لله محضا ولا للناس محضا فما حكم هذا القسم هل يبطل العمل كله أم يبطل ما كان لغير الله ويصح ما كان لله.
قيل هذا القسم تحته أنواع ثلاث:
أحدها: أن يكون الباعث الأول على العمل هو الإخلاص ثم يعرض له الرياء وإرادة غير الله في إثنائه فهذا المعول فيه على الباعث الأول ما لم يفسخه بإرادة جازمة لغير الله فيكون حكمه حكم قطع النية في أثناء العبادة وفسخها أعنى قطع ترك استصحاب حكمها.
الثاني: عكس هذا وهو أن يكون الباعث الأول لغير الله ثم يعرض له قلب النية لله فهذا لا يحتسب له بما مضى من العمل ويحتسب له من حين قلب نيته ثم إن كانت العبادة لا يصح آخرها إلا بصحة أولها وجبت الإعادة كالصلاة وإلا لم تجب كمن أحرم لغير الله ثم قلب نيته لله عند الوقوف والطواف.
الثالث: أن يبتدئها مريدا بها الله والناس فيريد أداء فرضه والجزاء والشكور من الناس وهذا كمن يصلي بالأجرة فهو لو لم يأخذ الأجرة صلى ولكنه يصلي لله وللأجرة وكمن يحج ليسقط الفرض عنه ويقال فلان حج أو يعطي الزكاة كذلك فهذا لا يقبل منه العمل وإن كانت النية شرطا في سقوط الفرض وجبت عليه الإعادة فإن حقيقة الإخلاص التي هي شرط في صحة العمل والثواب عليه لم توجد والحكم المعلق بالشرط عدم عند عدمه فإن الإخلاص هو تجريد القصد طاعة للمعبود ولم يؤمر إلا بهذا وإذا كان هذا هو المأمور به فلم يأت به بقي في عهدة الأمر وقد دلت السنة الصريحة على ذلك كما في قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يقول الله عز و جل يوم القيامه أنا أغنى الشركاء عن الشرك فمن عمل عملا أشرك فيه غيري فهو كله للذي أشرك به»، وهذا هو معنى قوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا}. ["إعلام الموقعين" (2/182)].
الْحَدِيْثُ السابعُ:
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُوْدٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ مَاتَ وَهْوَ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ نِدًّا دَخَلَ النَّارَ». رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
الشَّرْحُ:
الْحديث أخرجه البخاري رحمه الله في “صحيحه”، وبوب فيه: “بَابُ قَوْلِهِ: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ}”. وأخرجه مسلم رحمه الله في “صحيحه”، وبوب النووي رحمه الله فيه: “بَابُ مَنْ لَقِي اللهَ بِالْإِيمَانِ وَهُو غَيْرُ شَاكٍّ فِيهِ دَخَلَ الْجَنَّةَ وَحُرِّمَ عَلَى النَّارِ”.
قوله رحمه الله: (عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُوْدٍ) هو أبو عبد الرحمن أحد علماء الصحابة وأكابرهم مات بالمدينة سنة اثنتين وثلاثين. ["إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام" (1/108)].
قوله: «مَنْ مَاتَ وَهْوَ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ نِدًّا»، وما يأتي الأمر بالعبادة إلا مقروناً بالنهي عن الشرك، كما قال الله تعالى: {وَاعْبُدُوا اللهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً}، وهذا هو معنى لا إله إلاَّ الله، لأن لا إله إلاَّ الله تشتمل على النفي وعلى الإثبات، النفي: نفى الشرك، والإثبات: إثبات التّوحيد.
الْحَدِيْث الثامنُ:
رَوَى الإِمامُ التِّرْمِذِيُّ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «رَأْسُ الأَمْرِ الإِسْلَامُ، وَعَمُودُهُ الصَّلَاةُ، وَذِرْوَةُ سَنَامِهِ الجِهَادُ فِيْ سَبِيْلِ اللهِ».
الشَّرْحُ:
الْحديث أخرجه الترمذي رحمه الله في “سننه”، وقال الترمذي: “هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ”، وأخرجه ابن ماجه رحمه الله في “سننه”.
قوله رحمه الله: (رَوَى الإِمامُ التِّرْمِذِيُّ) في “سننه”، قال عنه أبو الطيب السيد صديق حسن القنوجي (ت 1307هـ): “وبالجملة فهو ثالث الكتب الستة، قال الترمذي: صنفت هذا الكتاب فعرضته على علماء الحجاز والعراق وخراسان فرضوا به ومن كان في بيته فكأنما النبي في بيته يتكلم وقد اشتهر بالنسبة إلى مؤلفه فيقال: “جامع الترمذي”، ويقال له: “السنن” أيضا، والأول أكثر.
قال ابن الأثير: وكتابه هذا أحسن الكتب وأكثرها فائدة وأحسنها ترتيبا وأقلها تكرارا، وفيه ما ليس في غيره من ذكر المذاهب ووجوه الاستدلال وتبيين أنواع الحديث والحسن والغريب، وقال في “بستان المحدثين”: تصانيف الترمذي كثيرة وأحسنها هذا الجامع الصحيح بل هو من بعض الوجوه والحيثيات أحسن جميع كتب الحديث:
الأول: من جهة حسن الترتيب وعدم التكرار.
والثاني: من جهة ذكر مذاهب الفقهاء ووجوه الاستدلال لكل أحد من أهل المذاهب.
والثالث: من جهة بيان أنواع الحديث من الصحيح والحسن والضعيف والغريب والمعلل بالعلل.
والرابع: من جهة بيان أسماء الرواة وألقابهم وكناهم ونحوها من الفوائد المتعلقة بعلم الرجال وفي آخر الجامع المذكور كتاب العلل وفيه من الفوائد الحسنة ما لا يخفى عن الفطن ولهذا قالوا هو كاف للمجتهد ومغن للمقلد. ["الحطة في ذكر الصحاح الستة" (1/207-208)].
قوله: «وَعَمُودُهُ الصَّلَاةُ» فهذا الحديث صريح في كفر تارك الصلاة، وهو إجماع الصحابة، كما حكاه إسحاق بن راهويه وابن حزم وعبد الله بن شقيق، وهو مذهب جمهور العلماء من التابعين ومن بعدهم.
قال حمد بن ناصر بن عثمان بن معمر رحمه الله (ت 1225 هـ): “ثم اعلم رحمك الله وأرشدك أن العلماء كلهم مجمعون على قتل تارك الصلاة كسلاً إلاّ أبا حنيفة ومحمد بن شهاب الزهري وداود فإنهم قالوا يحبس تارك الصلاة المفروضة حتى يموت أو يتوب.
ومن احتج لهذا القول بقوله صلى الله عليه وسلم: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلاً الله فإذا قالوا عصموا مني دماءهم وأموالهم إلاً بحقها»، فقد أبعد النجعة، فإن هذا الحديث لا حجة فيه، بل هو حجة لمن يقول بقتله كما سيأتي بيانه إن شاء الله.
واحتج الجمهور على قتله بالكتاب والسنة، أما الكتاب فقوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} إلى قوله: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} [التوبة: 5]، فشرط الكف التوبة من الشرك وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، فإذا لم توجد هذه الثلاث لم يكف عن قتالهم ولم يخل سبيلهم.
وأما السنة فثبت في “الصحيحين” عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلاّ الله، وأن محمداً رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلاّ بحق الإسلام وحسابهم على الله».
فعلق العصمة على الشهادتين والصلاة والزكاة”. ["الفواكه العذاب في الرد على من لم يحكم السنة والكتاب" (1/65-66)].
قوله: «وَذِرْوَةُ سَنَامِهِ الجِهَادُ فِيْ سَبِيْلِ اللهِ»، قال أبو العباس أحمد الحراني (ت 728هـ):وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ لَمْ يَرِدْ فِي ثَوَابِ الْأَعْمَالِ وَفَضْلِهَا مِثْلُ مَا وَرَدَ فِيهِ. وَهُوَ ظَاهِرٌ عِنْدَ الِاعْتِبَارِ فَإِنَّ نَفْعَ الْجِهَادِ عَامٌّ لِفَاعِلِهِ وَلِغَيْرِهِ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا وَمُشْتَمِلٌ عَلَى جَمِيعِ أَنْوَاعِ الْعِبَادَاتِ الْبَاطِنَةِ وَالظَّاهِرَةِ فَإِنَّهُ مُشْتَمِلٌ مِنْ مَحَبَّةِ اللَّهِ تَعَالَى وَالْإِخْلَاصِ لَهُ وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ وَتَسْلِيمِ النَّفْسِ وَالْمَالِ لَهُ وَالصَّبْرِ وَالزُّهْدِ وَذِكْرِ اللَّهِ وَسَائِرِ أَنْوَاعِ الْأَعْمَالِ: عَلَى مَا لَا يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ عَمَلٌ آخَرُ. وَالْقَائِمُ بِهِ مِنْ الشَّخْصِ وَالْأُمَّةِ بَيْنَ إحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ دَائِمًا. إمَّا النَّصْرُ وَالظَّفَرُ وَإِمَّا الشَّهَادَةُ وَالْجَنَّةُ. فَإِنَّ الْخَلْقَ لَا بُدَّ لَهُمْ مِنْ مَحْيَا وَمَمَاتٍ فَفِيهِ اسْتِعْمَالُ مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتِهِمْ
فِي غَايَةِ سَعَادَتِهِمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَفِي تَرْكِهِ ذَهَابُ السَّعَادَتَيْنِ أَوْ نَقْصُهُمَا؛ فَإِنَّ مِنْ النَّاسِ مَنْ يَرْغَبُ فِي الْأَعْمَالِ الشَّدِيدَةِ فِي الدِّينِ أَوْ الدُّنْيَا مَعَ قِلَّةِ مَنْفَعَتِهَا فَالْجِهَادُ أَنْفَعُ فِيهِمَا مِنْ كُلِّ عَمَلٍ شَدِيدٍ وَقَدْ يَرْغَبُ فِي تَرْفِيهِ نَفْسِهِ حَتَّى يُصَادِفَهُ الْمَوْتُ فَمَوْتُ الشَّهِيدِ أَيْسَرُ مِنْ كُلِّ مِيتَةٍ وَهِيَ أَفْضَلُ الْمِيتَاتِ. وَإِذَا كَانَ أَصْلُ الْقِتَالِ الْمَشْرُوعِ هُوَ الْجِهَادُ وَمَقْصُودُهُ هُوَ أَنْ يَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ وَأَنْ تَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا فَمَنْ امْتَنَعَ مِنْ هَذَا قُوتِلَ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ. ["مجموع الفتاوى" (28/353-354)].
إن الله قد وصف لمن ترك الجهاد بالنفاق ومرض القلوب فقال تعالى: {قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ}. [التوبة: 24].
وقال سبحانه: {فَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُّحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ . طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَّعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ . فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ . أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} [محمد: 20-23].
قال أبو العباس أحمد الحراني (ت 728هـ):وَمَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ الْحَضِّ عَلَى الْجِهَادِ وَالتَّرْغِيبِ فِيهِ وَذَمِّ النَّاكِلِينَ عَنْهُ وَالتَّارِكِينَ لَهُ: كُلُّهُ ذَمٌّ لِلْجُبْنِ. وَلَمَّا كَانَ صَلَاحُ بَنِي آدَمَ لَا يَتِمُّ فِي دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ إلَّا بِالشَّجَاعَةِ وَالْكَرَمِ: بَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّ مَنْ تَوَلَّى عَنِ الْجِهَادِ بِنَفْسِهِ أَبْدَلَ اللَّهُ بِهِ مَنْ يَقُومُ بِذَلِكَ؛ فَقَالَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إلَّا قَلِيلٌ . إلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}. وَقَالَ تَعَالَى: {هَاأَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ}. ["مجموع الفتاوى" (28/157)].
الْحَدِيْثُ التَّاسِعُ:
قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَرَّمَ عَلَى النَّارِ مَنْ قَالَ: لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، يَبْتَغِي بِذَلِكَ وَجْهَ اللَّهِ». رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
الشَّرْحُ:
الحديث أخرجه البخاري ومسلم رحمهما الله في “صحيحيهما”، من حديث عِتْبَانَ بْنِ مَالِكٍ وَهُوَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ مِمَّنْ شَهِدَ بَدْرًا مِنَ الْأَنْصَارِ.
قوله: «إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَرَّمَ عَلَى النَّارِ مَنْ قَالَ: لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، يَبْتَغِي بِذَلِكَ وَجْهَ اللَّهِ»، قال عبد الرحمن السعدي رحمه الله: أن التوحيد إذا تم وكمل في القلب وتحقق تحققا كاملا بالإخلاص التام فإنه يصير القليل من عمله كثيرا، وتضاعف أعماله وأقواله بغير حصر ولا حساب، ورجحت كلمة الإخلاص في ميزان العبد بحيث لا تقابلها السماوات والأرض وعمارها من جميع خلق الله. ["القول السديد شرح كتاب التوحيد" (1/21)].
وهذا الحديث يفيد أن من قال لا إله إلا الله خالصًا من قلبه فقد برئ من الشرك وأهله، قال الله تعالى: {اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام: 106].
تم بحمد الله
سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك
Tidak ada komentar:
Posting Komentar